فيما يلي تفسير لقول الله تعالى امساك بمعروف او تسريح باحسان ترجم البخاري على هذه الآية ” باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم ، فمن ضيق على نفسه لزمه . قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف ، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة . وقيل عنهما : لا يلزم منه شيء ، وهو قول مقاتل . ويحكى عن داود أنه قال لا يقع . والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا . ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات ، فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه ، وقد تقدم . وقال : الطلاق مرتان والثالثة فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم ، إذ هو غير مذكور في القرآن . وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة : أحدها : حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة . وثانيها : حديث ابن عمر على رواية من روى ( أنه طلق امرأته ثلاثا ، وأنه عليه السلام أمره برجعتها واحتسبت له واحدة ) . وثالثها : ( أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها ، والرجعة تقتضي وقوع واحدة ) . والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي أن سعيد بن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس ( فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته ، ولا ينكحها إلا بعد زوج ) ، وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره ، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه .
قال ابن عبد البر : ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب ، وقد قيل : إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس . قال القاضي أبو الوليد الباجي : ” وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة ، فقد روى عنه الأئمة : معمر وابن جريج وغيرهما ، وابن طاوس إمام . والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ( كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم ) . ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات ، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو كان حالهم ذلك في أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله ، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة . ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه ( أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة ) ، فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه ، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه ، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا ” .
المصدر quran.edu